الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
وقد يُؤوَّل هذا بمعنى؛ لا نُورث الذي تركنا صدقة؛ لأن النبيّ صلى الله عليه وسلم لم يخلّف شيئًا يورث عنه؛ وإنما كان الذي أباحه الله عز وجل إياه في حياته بقوله تبارك اسمه: {واعلموا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ للَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ} [الأنفال: 41] لأن معنى (لله) لسبيل الله، ومن سبيل الله ما يكون في مصلحة الرسول صلى الله عليه وسلم ما دام حيًا؛ فإن قيل: في بعض الروايات «إنا معاشر الأنبياء لا نورث ما تركنا صدقة» ففيه التأويلان جميعًا؛ أن يكون «ما» بمعنى الذي.والآخر لا يورث من كانت هذه حاله.وقال أبو عمر: واختلف العلماء في تأويل قوله عليه السلام: «لا نورث ما تركنا صدقة» على قولين: أحدهما: وهو الأكثر وعليه الجمهور أن النبيّ صلى الله عليه وسلم لا يورث وما ترك صدقة.والآخر: أن نبينا عليه الصلاة والسلام لم يُورَث؛ لأن الله تعالى خصه بأن جعل ماله كله صدقة زيادة في فضيلته، كما خُصَّ في النكاح بأشياء أباحها له وحرمها على غيره؛ وهذا القول قاله بعض أهل البصرة منهم ابن عُلَية، وسائر علماء المسلمين على القول الأوّل.الثالثة: قوله تعالى: {مِنْ آلِ يَعْقُوبَ} قيل: هو يعقوب إسرائيل، وكان زكريا متزوجًا بأخت مريم بنت عمران، ويرجع نسبها إلى يعقوب؛ لأنها من ولد سليمان بن داود وهو من ولد يهوذا بن يعقوب، وزكريا من ولد هارون أخي موسى، وهارون وموسى من ولد لاوي بن يعقوب، وكانت النبوّة في سبط يعقوب بن إسحاق.وقيل: المعنيُّ بيعقوب هاهنا يعقوب بن ماثان أخو عمران بن ماثان أبي مريم أخوان من نسل سليمان بن داود عليهما السلام؛ لأن يعقوب وعمران ابنا ماثان، وبنو ماثان رؤساء بني إسرائيل؛ قاله مقاتل وغيره.وقال الكلبي: وكان آل يعقوب أخواله، وهو يعقوب بن ماثان، وكان فيهم الملك، وكان زكريا من ولد هارون بن عمران أخي موسى.وروى قتادة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يرحم الله تعالى زكريا ما كان عليه من ورثته» ولم ينصرف يعقوب لأنه أعجمي.الرابعة: قوله تعالى: {واجعله رَبِّ رَضِيًّا} أي مرضيًا في أخلاقه وأفعاله.وقيل: راضيًا بقضائك وقدرك.وقيل: رجلًا صالحًا ترضى عنه.وقال أبو صالح: نبيًا كما جعلت أباه نبيًا. اهـ.
وبعضهم أعرب {شيبًا} مصدرًا قال: لأن معنى {واشتعل الرأس} شاب فهو مصدر من المعنى.وقيل: هو مصدر في موضع نصب على الحال، واشتعال الرأس استعارة المحسوس للمحسوس إذ المستعار منه النار والمستعار له الشيب، والجامع بينهما الانبساط والانتشار {ولم أكن} نفي فيما مضى أي ما كنت {بدعائك رب شقيًا} بل كنت سعيدًا موفقًا إذ كنت تجيب دعائي فأسعد بذلك، فعلى هذا الكاف مفعول.وقيل: المعنى {بدعائك} إلى الإيمان {شقيًا} بل كنت ممن أطاعك وعبدك مخلصًا.فالكاف على هذا فاعل والأظهر الأول شكرًا لله تعالى بما سلف إليه من إنعامه عليه، أي قد أحسنت إليّ فيما سلف وسعدت بدعائي إياك فالإنعام يقتضي أن تجيبني آخر كما أجبتني أولًا.وروي أن حاتمًا الطائي أتاه طالب حاجة فقال: أنا أحسنت إليك وقت كذا، فقال حاتم: مرحبًا بالذي توسل بنا إلينا وقضى حاجته.{وإني خفت الموالي من ورائي} {الموالي} بنو العم والقرابة الذين يلون بالنسب.قال الشاعر: وقال لبيد: وقال ابن عباس ومجاهد وقتادة وأبو صالح {الموالي} هنا الكلالة خاف أن يرثوا ماله وأن يرثه الكلالة.وروى قتادة والحسن عن النبيّ صلى الله عليه وسلم: «يرحم الله أخي زكريا ما كان عليه ممن يرث ماله» وقالت فرقة: إنما كان مواليه مهملين الدين فخاف بموته أن يضيع الدين فطلب وليًا يقوم بالدين بعده، وهذا لا يصح عنه إذ قال عليه السلام: «نحن معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه فهو صدقة» والظاهر اللائق بزكريا عليه السلام من حيث هو معصوم أنه لا يطلب الولد لأجل ما يخلفه من حطام الدنيا.وكذلك قول من قال: إنما خاف أن تنقطع النبوّة من ولده ويرجع إلى عصبته لأن تلك إنما يضعها الله حيث شاء ولا يعترض على الله فيمن شاءه واصطفاه من عباده.قال الزمخشري كان مواليه وهم عصبته إخوته وبنو عمه شرار بني إسرائيل فخافهم على الدين أن يغيروه وأن لا يحسنوا الخلافة على أمته، فطلب عقبًا صالحًا من صلبه يقتدى به في إحياء الدين.وقرأ الجمهور: {خفت} من الخوف.وقرأ عثمان بن عفان وزيد بن ثابت وابن عباس وسعيد بن العاصي وابن يعمر وابن جبير وعليّ بن الحسين وولده محمد وزيد وشبيل بن عزرة والوليد بن مسلم لأبي عامر {خفت} بفتح الخاء والفاء مشددة وكسر تاء التأنيث {الموالي} بسكون الياء والمعنى انقطع مواليّ وماتوا فإنما أطلب وليًا يقوم بالدين.وقرأ الزهري {خفت} من الخوف {الموالي} بسكون التاء على قراءة {خفت} من الخوف يكون {من ورائي} أي بعد موتي.وعلى قراءة {خفت} يحتمل أن يتعلق {من ورائي} بخفت وهو الظاهر، فالمعنى أنهم خفوا قدامه أي درجوا فلم يبق منهم من له تقوّ واعتضاد، وأن يتعلق بالموالي أي قلوا وعجزوا عن إقامة الدين.و{ورائي} بمعنى خلفي ومن بعدي، فسأل ربه تقويتهم ومظاهرتهم بولي يرزقه.وروي عن ابن كثير من وراي مقصورًا كعصاي.وتقدم شرح العاقر في آل عمران وقوله: {من لدنك} تأكيد لكونه وليًا مرضيًا بكونه مضافًا إلى الله وصادرًا من عنده، أو أراد اختراعًا منك بلا سبب لأني وامرأتي لا نصلح للولادة.والظاهر أنه طلب من الله تعالى أن يهبه وليًا ولم يصرح بأن يكون ولد البعد ذلك عنده لكبره وكون امرأته عاقرًا.وقيل: إنما سأل الولد.وقرأ الجمهور: {يرثني ويرث} برفع الفعلين صفة للولي فإن كان طلب الولد فوصفه بأن تكون الإجابة في حياته حتى يرثه لئلا تكون الإجابة في الولد لكن يحرمه فلا يحصل ما قصده.وقرأ النحويان والزهري والأعمش وطلحة واليزيدي وابن عيسى الأصبهاني وابن محيصن وقتادة بجزمهما على جواب الأمر.وقرأ عليّ وابن عباس والحسن وابن يعمر والجحدري وقتادة وأبو حرب بن أبي الأسود وجعفر بن محمد وأبو نهيك {يرثني} بالرفع والياء وارث جعلوه فعلًا مضارعًا من ورث.قال صاحب اللوامح: وفيه تقديم فمعناه {فهب لي من لدنك وليًا} من آل يعقوب {يرثني} إن مت قبله أي نبوّتي وأرثه إن مات قبلي أي ماله، وهذا معنى قول الحسن.وقرأ عليّ وابن عباس والجحدري {يرثني} وارث {من آل يعقوب}.قال أبو الفتح هذا هو التجريد التقدير {يرثني} منه وارث.وقال الزمخشري وارث أي {يرثني} به وارث ويسمى التجريد في علم البيان، والمراد بالإرث إرث العلم لأن الأنبياء لا تورث المال.وقيل: {يرثني} الحبورة وكان حبرًا ويرث {من آل يعقوب} الملك يقال: ورثته وورثت منه لغتان.وقيل: {من} للتبعيض لا للتعدية لأن {آل يعقوب} ليسوا كلهم أنبياء ولا علماء.وقرأ مجاهد أو يرث من آل يعقوب على التصغير، وأصله وويرث فأبدلت الواو همزة على اللزوم لاجتماع الواوين وهو تصغير وارث أي غُلَيم صغير.وعن الجحدري وارث بكسر الواو يعني به الإمالة المحضة لا الكسر الخالص، والظاهر أن يعقوب هو ابن إسحاق بن إبراهيم.وقيل: هو يعقوب بن ماثان أخو زكرياء.وقيل: يعقوب هذا وعمران أبو مريم أخوان من نسل سليمان بن داود ومرضيًا بمعنى مرضي. اهـ.
|